Saturday, November 17, 2012

الملك يصارح الشعب ويفند الإشاعات والإفتراءات *


جلالة الملك يتحدث بمنتهى الصراحة والمكاشفة حول القضايا المثيرة للجدل 

"بلدنا اليوم يواجه تحديات هائلة وفي الوقت نفسه أمامنا فرص كبيرة لم تكن متاحة لنا من قبل، فرص يمكن أن تساعدنا في حل بعض المشاكل التي نعاني منها منذ فترة طويلة، وتساعد أيضا في التخلص من آثار وتداعيات هذه المشاكل نهائياً.

هناك ثلاثة تحديات رئيسية: الأسعار، الأسعار، الأسعار. وبالطبع لدينا تحديات رئيسية أخرى مثل البطالة، والفقر، والمديونية، ولكن من الإنصاف أن نقول أن الأسعار المرتفعة هي التي تشغل بال كل واحد منا. ففي كل يوم، تظل الأسعار قضية تستحوذ على تفكيري، وتقلقني كثيراً لما تمثله من تحد هائل لغالبية الأردنيين، وتثقل كاهلهم.  فهذه مشكلة يعاني منها العالم بأجمعه، والعالم النامي الذي نشكل جزءا منه هو الذي تلقى الضربة الأشد والأقسى.

وليس هناك حكومة في العالم حسب علمي تمكنت من إيجاد الحل المناسب في المدى القصير لحماية مواطنيها وتحصينهم في وجه الأسعار المرتفعة، وأي شخص يقول عكس هذا فهو غير منصف في قوله. ولكن هناك إجراءات على الحكومات أن تقوم بها على المدى القصير لتخفيف تأثير الأسعار. وهنا في الأردن فقد بدأت الحكومة بتنفيذ حزمة من الإجراءات التي تحمي المواطن من تداعيات غلاء المعيشة...وقامت الحكومة بالتدخل في السوق لدفع أسعار السلع الأساسية إلى الإنخفاض إلى أقصى حد ممكن...وأنا أول من يعترف بأن هذا ما زال ليس كافيا وأننا بحاجة إلى القيام بالمزيد، وسنقوم بعمل المزيد، إن شاء الله.

الارتفاع في الأسعار سبب كثيراً من عدم الرضا لدى الناس، وشكل أرضية خصبة لتصديق الأكاذيب والإشاعات، ومن هنا فإن هناك فئات ومجموعات مختلفة تستغل عدم الرضا هذا لفرض ونشر أجنداتها السياسية. فعلى سبيل المثال نرى الآن أن من يعارض الانفتاح الاقتصادي هم الأعلى صوتا في نقدهم لسياسات الحكومة الاقتصادية بالرغم من أنه ليس لديهم اي بديل عملي، ولا يستطيعون أن يقدموا أي بديل أو نموذج في أي مكان في العالم.
إن نقد السياسات الحكومية في الأوقات الصعبة واستعمال هذا من أجل أجندة معينة لمجموعة من الناس أمر مقبول يحدث في جميع أرجاء العالم. ولكن استعمال أكاذيب مكشوفة وإشاعات صبيانية، تعيق مسيرتنا نحو التقدم، هو أمر غير منصف وغير مقبول على الإطلاق.

وبالرغم من أننا نعاني، مثل معظم الدول في ارجاء العالم، من مشكلة ارتفاع الأسعار، فإننا في الواقع في وضع أفضل بكثير من العديد من بلدان العالم والتي لها موارد طبيعية أكثر مما لدينا. فنحن لدينا علاقات قوية مع إخواننا في دول الخليج التي تشهد طفرة مالية نتيجة لارتفاع أسعار النفط...
والحمد لله لمسنا بشكل جدي الرغبة القوية لدى أشقائنا في الخليج، لمساعدة الأردن، وأنا فخور وشاكر لهم بهذا...لدى أشقائنا في الخليج اليوم إمكانات كبيرة ونية صادقة وإرادة مخلصة لمساعدتنا. وليس هناك شك في أنهم يقدمون المساعدات الاقتصادية للموازنة العامة، وخاصة المملكة العربية السعودية الشقيقة التي وقفت إلى جانبنا خلال السنوات الماضية وقفة مشرفة. وعلاوة على ذلك فإن بإمكان الأشقاء في الخليج العربي مساعدتنا أضعافا مضاعفة من خلال الاستثمار.

عندما نتحدث عن استثمارات كبيرة لم نعتد عليها تاريخيا في الأردن، فإن الناس يبدأون بصورة أوتوماتيكية، بالتحدث عن الفساد. وهذا أمر طبيعي. وأيضا، فإن السرعة التي تتصرف بها الحكومة أحيانا من اجل جذب الاستثمار العربي وخاصة الخليجي قد تفاجئ المجتمع وتسبب الكثير من الكلام. ولكن من الأهمية بمكان لشعبنا الأردني أن يتفهم أن هذه الحاجة إلى السرعة ترتبط بصورة مباشرة بالحاجة إلى استثمار عوائد بيع النفط بسرعة لتعظيم عوائدها. وسواء رضينا أم أبينا، فهذا هو الأسلوب الذي يتبعه العالم في عمله. والبلدان التي تتعامل مع هذه السرعة ستفوز، وتلك التي تتأخر عن الركب وتسمح للبيروقراطية المعقدة أن تقف في طريق تحركها ستفشل. إن جميع البلدان في ارجاء العالم وفي المنطقة تتنافس لجذب الاستثمارات الخليجية، ومثلما قلت سابقا لن ينتظرنا أحد. وهذا لا يعني أن الاستثمار يجب أن يكون على حساب الشفافية. قطعا لا.

انا إنسان طموح وخاصة عندما يتصل الأمر بالأردن، وأعتقد أنه يمكننا الحصول على الاثنين معا. ولكن أولا كمجتمع علينا أن نتجاوز بعض العوائق التي تشوش عقلنا وتفكيرنا، وأن نتخلص منها بصورة نهائية. علينا أن نؤمن أن الاستثمار الأهلي الوطني والأجنبي أمر جيد لبلدنا وشعبنا، وكذلك التخاصية، وهناك البعض الذين يضعون مثل هذه المفاهيم الأساسية موضع التساؤل، وهذا في الواقع يبطىء مسيرتنا. فجميع الدول في العالم تطبق برامج للتخاصية، وجميع الدول لديها استراتيجيات لترويج الاستثمار، وجميع الدول تبيع أصولا مملوكة للدولة مثل الأراضي لتشجيع التنمية. فإذا ما اتهمنا الحكومة في كل مرة تقوم فيها بمثل هذه النشاطات، على أنها تمارس أعمالا سيئة وفاسدة، فإننا لن ننجح أبدا كدولة. 

إنني اسمع باستمرار عبارة الليبراليين تتردد ويتم تناقلها هذه الأيام. وأنا شخصيا اعتقد أن بعض الناس يستعملون كلمات كبيرة لا يفهمون فعلا معناها، وباختصار فإن الليبرالية هي مدرسة فكرية أكاديمية، تؤمن بأن كل شيء يجب أن يترك لقوى السوق، وأن الحكومة يجب أن لا تتدخل بقوى السوق هذه. والواقع أن من حولي يعملون بجد واجتهاد واقتدار في مبادرات...أو يحاولون إيجاد مساعدات للاستمرار في دعم بعض السلع أو لتجديد القرى والمدارس ولإنشاء شبكة أمان اجتماعي تحمي الفقير، وكل ذلك في تناقض مباشر مع النظرية الليبرالية الراديكالية.  وهذا لا يعني أننا ضد الخصخصة أو تقوية القطاع الخاص، أو زيادة الاستثمار في البلد، لأنني لست مرتبطا بشكل حصري بأي مبدأ أو نظرية بعينها، لا الليبرالية ولا المحافظة، لا اليسار ولا اليمين، لا الحرس القديم ولا الحرس الجديد، إن عقيدتي ومبدأي الوحيدين هما أن أراعي المصلحة الأفضل للأردن واحافظ عليها دائماً وابدأ.

لنبتعد عن التلاعب بالكلام...وأن أكون واضحا في فهم هذا الهراء، فالسؤال إما أن أكون جزءا من هذه المؤامرة، أو أن أكون بعيدا منعزلا ولا أدري ما الذي يجري في بلدي. وكلا هذين الافتراضين مسيء، والحقيقة هي أن هذين السيناريوهين هما ابعد ما يكونا عن الحقيقة.

وفي الواقع فإن العديد من أولئك الذين حولي نشأوا وترعرعوا في ظل والدي، رحمه الله، وخلفياتهم واضحة ومعروفة للجميع .. فنادر الذهبي...خدم قبل عهدي بصورة مميزة في سلاح الجو ومديراً للخطوط الجوية الملكية الأردنية، وأنا فخور جدا بانجازاته وسعيد بادائه، ورئيس الديوان الملكي باسم عوض الله تلقى تعليمه الجامعي بمنحة دراسية من المرحوم والدي، وقد خدم بتميز مرموق في اربعة من الحكومات التي شكلت في عهد والدي رحمه الله، ومنحه وسامين لعطائه وتميزه وخدمته، ولا احد يستطيع أن يشكك في خلفية رجال الحسين من العسكريين في قواتنا المسلحة من رئيس هيئة الاركان المشتركة الى الجندي العادي في الميدان، والأجهزة الامنية ومنها دائرة المخابرات العامة التي (رأسها) محمد الذهبي ''وهو أحد الذين خدموا هذا الجهاز على مدى سنوات'' خَدَمَتْ بلدنا وحمته بوسائل وطرق سنظل دائما عاجزين عن ايفائها ما تستحق من تقدير، ومن رئيس مجلس الاعيان الى رئيس مجلس النواب فهم جميعا رجال والدي رحمه الله وأنا فخور بهم وبانجازاتهم. 

ان كل مؤشر وكل خبير يوافق على ان الاردن يحقق تقدما ثابتا، وانكار ذلك جريمة بحق الأردن وبحق كل من عمل بجد واجتهاد في القطاع العام لدينا في هذه الحكومة وفي الحكومات السابقة وانا شخصيا فخور بانجازاتهم، ايضا ليس هنا شك بأن الزيادات الكبيرة التي حدثت اخيرا في الاسعار قوضت بعض اركان التقدم الذي حققناه وان وضع اللوم على السياسات الحالية والسابقة معيب، فليس هناك احد في العالم كان يمكنه التنبوء بهذه الارتفاعات في الأسعار، وليس لدى الحكومة الاردنية سيطرة عليها وفي الواقع يمكنني القول بأن الامور كانت ستكون اسوأ كثيرا لو لم نتخذ الاجراءات التي اتخذناها في الماضي. فعلى سبيل المثال لو لم تقم الحكومة باتخاذ القرار بالتحرير التدرجي لأسعار النفط، منذ عام ٢٠٠٥ لتحملت الموازنة العامة هذا العام أعباء إضافية قد تصل إلى ١٬٥ مليار دينار، مما كان سيترتب عليه تهديد حقيقي للاستقرار المالي في المملكة. هناك شيء اود لجميع الاردنيين ان يتفهموه انه حتى مع تنويع مصادر الطاقة بعيدا عن النفط، فإن فاتورة المحروقات ارتفعت (سبعة اضعاف) هذا العام، وهذا يعني أن كمية كبيرة من العملة الاجنبية تخرج من البلاد وان علينا ان نعوضها...وقد قامت الحكومات السابقة بهذا، وهذا هو الذي يسمح لاحتياطياتنا من العملات الأجنبية أن ترتفع بحمد الله، بالرغم من أنه يتوجب علينا أن ندفع فاتورة متزايدة لأثمان النفط.[1] 

أريد أن اُطمئن الجميع، اننا ملتزمون بإجراء الانتخابات النيابية في الربع الأخير من هذا العام، كما أعلنّا من قبل، وسوف تقوم الحكومة بوضع كل الإجراءات والترتيبات، التي تضمن أن تكون هذه الانتخابات بمنتهى الشفافية والنزاهة، للوصول إلى مجلس نواب، يمثل آمال وطموحات أبناء شعبنا العزيز. وهنا مطلوب من الجميع، العمل على توسيع الـمشاركة في هذه الانتخابات. وأنا أعرف أن الوضع الاقتصادي غير مريح، وأن المواطن يعاني من هذا الوضع، لكن الذي يجب أن نعرفه يا إخوا اننا ليس البلد الوحيد، الذي يعاني من الظروف الاقتصادية الصعبة، وأن وضعنا الاقتصادي يتأثر بشكل أو بآخر، بالأوضاع الاقتصادية في العالم من حولنا. ومن واجبنا، أن نحاول بشتى الطرق والوسائل التصدي لهذه الظروف، والتخفيف من آثارها السلبية على أبنـاء شعبنا. والحكومة تتحرك لمواجهة هذا التحدي الكبير، ضمن رؤية واضحة وخطط وبرامج عمل، مرتبطة بجـداول زمنية محددة، لكنها تحتاج إلى بعض الوقت، حتى تحقـق أهدافها، ويلمس المواطن نتائجها الإيجابية على حياتـه. بعباره أخرى، بدها شوية صبر يا إخوان. وأريد أن يكون المواطن على معرفة واطلاع على كل مـا تقوم به الحكومة ومؤسسات الدولة، من خطط وبرامج لمواجهة هذا الوضع الاقتصادي، حتى يكون مطمئنا أننا قادرون على تجاوز هذه الظروف، وأن الأمور تسير نحو الأفضل، بإذن الله.

من جهة أخرى، هناك بعض الظواهر الغريبة على مجتمعنا، وكل ما هو معروف عنه من القيم النبيلة، قيم الأخوة والتسامح والمحبة بين أبناء المجتمع الواحد، والأسرة الأردنية الواحدة الكبيرة. ومن هذه الظواهر المرفوضة والغريبة على مجتمعنا، ظاهرة العنف، وتحدي سيادة القانون، والخروج على الأعراف والتقاليد الأصيلة في هذا المجتمع. هذه الظاهرة، أحيانا، تأخذ شكـل الاعتداء على الأشخاص، أو الاعتداء بالتخريب والتكسير على بعض المؤسسات والمرافق العامة، لأبسط الأسباب، ودون وجه حق

نتحدث دائما عن حقوق الإنسان، وكرامة الإنسان الأردني، التي هي عندي أهم وفوق كل الاعتبارات. لماذا إذن، الاعتداء على كرامة المعلم والطبيب والشرطي والموظـف؟ هؤلاء الناس الذين يخدمون بلدهـم ومجتمعهـم بشـرف وإخلاص، وهم أبناؤنا وإخواننـا. لماذا الاعتداء على كرامتهـم، وأحيانا على أرواحهم ؟ معقول هذا الذي يصير يا إخوان؟ وبالمقابل، يجب أن يعرف الموظف العام، أنه موجود في هذه الوظيفة، لخدمة المواطن، وأنه ليس من حقه الاعتداء على كرامة المواطن أو حقه.

وأنا قلت من قبل أن كرامة المواطن عندي، أهم وأغلى من أي شيء آخر. والمؤسف أكثر، عندما يختلف اثنان، تحدث مشاجرة بينهما، ودون مبرر تتحول هذه المشاجرة البسيطة، من مشاجرة بين اثنين، إلى مشاجرة بين عشيرتين أو قريتين، وتستخدم فيها الأسلحة النارية، ويتم فيها الاعتداء على رجال الأمن العام، وعلى الممتلكات العامة والخاصة، وكأنه لا يوجد دولة، ولا يوجد قانون، ولا يوجد مؤسسات، ولا أعراف ولا تقاليد. هل هذه التصرفات من أخلاق الأردنيين ؟! وعاداتهم الأصيلة والنبيلة؟ لا يا إخوان، هذه ليست عاداتنـا ولا أخلاقنا ولا قيمنا. 

العشيرة يا إخوان، كانت على الدوام، ركيزة أساسية في بناء هذا المجتمع، ورديفاً وسنداً للمؤسسات الرسمية والأمنية، في الحفاظ على الأمن والاستقرار، وكانت دائماً رمزاً لكل القيم النبيلة، ورمز الانتماء لهذا الوطن، وأتمنى أن كل عشيرة، تحافظ على هذه الصورة الإيجابية المشرقة، التي نعتز بها، ولا تسمح لأحد، أن يسيء لهذه الصورة المشرقة. والعنف لا يمكن أن يكون حلا لأي مشكلة، بالعكس هو بحد ذاته مشكلة، وأي خلاف بين طرفين، وأي مشكلة كبيرة أو صغيرة، يمكن حلها بالحوار وتحكيم العقل، أو بالاحتكام إلى العدالة والقانون.

يا إخوان، نحن أكدنا من قبل، ونؤكد من جديد، على احترام حق الإنسان وحريته في التعبير، لكن الحرية لا تعني الخروج على القوانين، ولا على روح الدستور، ولا تعني إثارة الفتنة، أو التحريض أو التعدي على حقـوق الآخرين وحرياتهم. وأريد أن أعيد، وأؤكد من جديد أن الدولة قادرة، وفي أي لحظة، على ضبط الأمور، وتطبيق القانون على الجميع، ولا يوجد أحد أقوى من الدولة، ولا يوجد أحد فوق القانون، لكن الذي أتمناه عليكم وعلى إخواني الشباب في كل أرجاء الوطن، الذين أعتز بهم، أن نكون كلنا يداً واحدة في التصدي، لمثل هذه الظواهر الغريبة على مجتمعنا، والمرفوضة في كل الأحوال.

نحن نتحدث دائما عن نعمة الأمن والاستقرار في هذا الوطن العزيز، ونتحدث عن التنمية الشاملة، والتحديث والتطوير، ودولة المؤسسات وسيادة القانون. ودون الأمن والاستقرار وسيادة القانون، لا يمكن أن تكون هناك تنمية ولا تحديث ولا تطوير. صحيح ربما هناك حاجة إلى تعديل بعض القوانين، وربما وضع تشريعات جديدة، ولكن أتمنى على الجميع، أن يكون في كل واحد منا وازع داخلي يعكس انتماءه لهذا الوطن، ويمنعه من عمل الخطأ عن قناعة، وليس خوفاً من القانون أو العقوبة. مطلوب من الجميع، وكل واحد من موقعه، أن نتصدى لمثل هذه الظواهر والأخطاء، ولكل من يحاول الخروج على القانون، أو العبث بالأمن والاستقرار، أو بوحدتنا الوطنية، أو إثارة الفتنة والفوضى بين أبناء الأسرة الأردنية الواحدة الكبيرة. وبالمقابل، ستواصل الدولة القيام بواجبها في حماية الأرواح والممتلكات والوحدة الوطنية، وفرض سيادة القانون، لتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع.

وبالرغم من كل ما تقدم، فأنا كلي ثقه وأمل بالمستقبل، وأنا أعرف أبناء شعبي، وأعرف انتماءهم وإخلاصهم لوطنهم، وأعرف أنهم بوعيهم وإرادتهم القوية، وتماسك جبهتنا الداخلية، سنكون قادرين على التصدي لأي مؤامرة، وأي جهة تحاول المساس بأمن الأردن أو استقراره. وأعرف أنهم، وأنا واحد منهم، مستعدون لحماية هذا الوطن بدمائنا وأرواحنا. [2] 

لتكن المعرفة سلاحكم .. ولا تصدقوا الإشاعات، وخاصة عندما يقول لكم أحدهم إنها من مصادر موثوقة.
واخيرا إعلموا أنكم كل شيء بالنسبة لي.[1] 

*العنوان الرئيسي لجريدة الرأي في ٢ تموز ٢٠٠٨
[1] اقتباس من مقابلة شاملة لجلالته مع وكالة الأنباء الأردنية في ٢ تموز ٢٠٠٨ 
[2] إقتباس من كلمة جلالته في يوم الجيش في ٩ حزيران ٢٠١٠ 


Wednesday, September 26, 2012

ليس سهلاً أن تكون عبدالله؟

إلى أهالي معتقلي الحرية: أنتم أحسن منا جميعاً 

استفزني إعتقال عبدالله محادين أكثر من غيره من الرفاق. ربما لأني أشعر بأني أعرفه بشكل شخصي (أظن التقينا مرة سريعة على الدوار الرابع)، أو ربما لأنه بحماسته وتدينه وتفوقه يذكرني بأخوي الصغير. لكن من المؤكد أن السبب الرئيسي هو شعور بالظلم أولاً: "ليش دايماً عبدالله؟" "هو شو عمل أصلاً؟" وشعور بالقلق على وضع البلد وهشاشة نظامها الذي لا يستطيع أن يتحمل اعتصامات مجموعة صغيرة من الشباب فيلجأ إلى أساليب بائسة من ترهيب وحبس تعكس إفلاسه. 

لكن هذه المرة قررت التعامل مع هذا الإستفزاز بطريقة مختلفة، فبدلاً من اليأس والإحباط وتبني الشعار التاريخي: (هذا الأردن وضعه هيك، وما في أمل يتغير قريباً، فيا بتلاقي طريقة تتأقلم معه بوضعه الحالي يا بتلاقيلك مكان الحياة في أحسن تقضي فيه هالثلاثين أربعين سنة الضايلين لك وبلا وجع راس)، قررت أن أرفض موجة اللامبالاة متزايدة الإنتشار وقررت أن احتل موقع عبدالله، على الأقل إلى حين إطلاق سراحه (خاوة). قررت أن أزيد من "نشاطي" الرافض للوضع القائم إفتراضياً، والأهم فعلياً، حاملاً الشعار الجديد "عبدالله مش أحسن مني"، وعاقداً العزم على تغيير الأولويات بما يتناسب مع الشعار الجديد.

كما توقع الرفاق، لم تستمر هذه الحالة أكثر من عشرة أيام. المشاركة بثلاثة أو أربعة اعتصامات خلال أسبوع كافية لتكتشف كمية الوقت التي يجب أن تكرسها للهدف على حساب نشاطاتك اليومية الأخرى التي يمارسها باقي البشر. الإعتقالات التي تحدث أمامك تحول السجن من فكرة "رومانسية" إلى حقيقة "مخيفة"، فتترك موقع الإعتصام وأنت غير قادر أن تتخيل بأن من كان يهتف على بعد مترين منك قبل دقائق يجلس الآن مقيداً في زنزانة، بينما يشاء الحظ (وجبنك) أن تعود أنت إلى كنبايتك. تعلق صورة في ذهنك: قوات التدخل السريع بإقنعتها السوداء تحيط بالمعتصمين وتتفوق عليهم عدداً بنسبة خمسة إلى واحد، آمر الفرقة ذو الكرش الهائل يسحب كيس أسود من جيب الفوتيك ويحشو رأسه به فيغطي وجهه حتى أعلى ذقنه فقط، وتشاء الصدف ألا يحصل الفض. لكن الفكرة وصلت؛ كيف ترد عندما تشاء الصدف ويحدث الهجوم؟ تنبطح أرضاً وتنقل إلى المستشفى أم تصمد وتنقل إلى المستشفى والسجن أم تلزم بيتك إحتياطاً، وفخار يكسر بعضه؟ 

في الواقع، كل ذلك ليس سوى مخاوف وتحديات سخيفة مقارنةً بالهدف، ومقارنةً بالشعور بالرضى الذي ينتج عن قناعة بأنك تتخذ خطوات أولى على الطريق الصحيح. لماذا تترك أرضك وجمهورك وتعلن الهزيمة أمام الغباء والتخلف والمرض بدون أدنى مقاومة؟ كان أسبوعاً سعيداً بالرغم من كل شيء. حتى جاءت مكالمة الوالدة الباكية: "انت شو الك دخل؟" "ليش ما بتفكر فينا؟" "إفرض صارلك اشي ولا انحبست؟" "إفرض صار عندك عاهة مستديمة" كانت مقدمة لساعات متواصلة من كلمات العتب الصادقة، فشلت كل المحاولات لإحتوائها ولم تتوقف قبل الحصول على وعد بتجميد كل الأنشطة، تحت التحديد "بالمقاطعة النهائية والتبري منك بالجرايد" في حال الإخلال بالوعد. 

كان لدى الرفاق في فترة الأحكام العرفية نظرية بأن الأنظمة القمعية تعرف أن "الرهبة من السجن رادع أكبر بكثير من السجن نفسه"، وبالتالي فإن كل موجة اعتقالات تستهدف نفس المجموعة الأشخاص ممن كسروا (لحسن حظهم أو ربما سوء حظهم) هذا الحاجز، لتخويف المجموعة الأكبر ممن بقيت خارجه. في مجتمع مثل الأردن، يرتبط فيه الأفراد على الأقل بأسرهم الصغيرة إرتباطاً وثيقاً  تتسع هذه النظرية فتصبح: "إعتقلوا الشباب مش لتخويفك فقط، بل الأهم لتخويف أهلك". ليس من السهل التضحية بوقتك وربما عملك وحتى حريتك في سبيل الهدف، ولكن الصعوبة فعلاً هي التضحية بما ليس لك ولا سيطرة لك عليه: فكيف تتعامل مع قلق الأم والأب والأخ والزوجة وغيرهم ممن تحب؟ وكيف تواجه لوم العم والخال ممن يشعرون بأن ما تقوم به قد يؤثر على حياتهم ومصالحهم؟ كيف تتعامل مع داوئر ودوائر من الضغوط؟ يمكن "عبدالله محادين مش أحسن مني" (وأشك بذلك)، لكن من المسلم به أن أهل وأحباء معتقلي الحرية أحسن منا جميعاً، فلهم الشكر والتحية، نفخر بكم كما تفخرون بأبنائكم رفاقنا، وبفضلهم وبفضلكم، ستأتي أيام أفضل.  

Thursday, April 26, 2012

قرفنا فتطرفنا

خواطر مواطن لا يمثل إلا نفسه

إن الدكتاتور الاتوقراطي المستبد لا يمكن له أن يعمل بدون حزب حاكم يزوده بالكوادر اللازمة للإدارة في شتى المجالات، والتي تمكنه من القيام بالوظائف الأساسية اللازمة لضمان البقاء، فتصبح هذه الكوادر "مفرطة الولاء" هي الطبقة المنتفعة المرتبطة وجودياً بالدكتاتور، ويعملا معاً بتفاهم لمصالحهما فقط. 

النظرة السريعة على من يطلق عليهم "رجالات" الدولة الاردنية على مدى الخمسين عاماً الماضية كفيلة بالكشف عن أن الوزراء والسفراء واعضاء مجالس الامة بشقيه وكبار الموظفين ورؤساء الهيئات ومن لف لفهم في مجملهم أبناء حزب واحد، هو حزب المخابرات والاجهزة الأمنية. فهؤلاء "الرجال" إما أعضاء فعليين في الجهاز (الحزب) أو أصدقاء له أو من مناصريه أو حتى في أسوأ الأحوال حاصلين على تنسيبه (وموافقته) حتى لو كان الأمر يتعلق بترفيع موظف حكومي من الدرجة الرابعة إلى الثالثة أو حتى ترفيع ضابط جيش من (من عقيد إلى عميد). وكأي حزب فعال، يلتحق بالأعضاء والاصدقاء والمناصرين والمؤازرين فريق لوجستي من منظرين ومثقفين (بالاحرى كتبة) ومناشير على شكل صحف رسمية وبرامج عمل داخلية وتمويل مستقل (من دافع الضرائب أو من تمويل أجنبي لأهداف)، وخطط  تجنيد أعضاء جدد، ومهرجانات ،وهذا أكثر من بديهي في حالة الحزب الحاكم الاردني.

مع إستلام الملك الجديد لراية الحاكم الأوحد ظهر حزب جديد لينافس الحزب التقليدي وهو حزب الديوان الملكي، الذي وإن كان قد ولد أساساً من رحم الحزب الام  فقد حاول أن يستقل عنه. فظهرت كوادره الجديدة من خارج المؤسسة الأمنية في مختلف مجالات الحياة السياسية (واهمها إقتصادياً) من مستشارين في الديوان ارتقوا إلى وزراء وحتى إلى رؤساء حكومات.

وإذا كان الحزب القديم كان قد إستمد حظوته  التاريخية لدى الحاكم من قدرته على ضمان عرشه والمحافظة عليه "أمنياً" ، فإن الحزب الجديد قدم للحاكم ما كان يحتاجه في تلك الفترة، وهو الثروة.  فالحزب الجديد الذي قام على نخبة من رجال الأعمال "الشباب" من أصحاب الرؤى الاقتصادية الفذة كان قادراً على إيجاد مصادر جديدة لضخ الأموال في خزينة القصر التي اضمحلت (نوعاً ما) بعد أن اقتسمها الورثة، خاصةً وأن متطلبات مستوى معيشة من كان أباه ملكاً تفوق بكثير متطلبات من إضطر يوماً أن يبيع بسكليته.

وعليه، فإن لحظة تحويل مدير المخابرات المخضرم البطيخي للقضاء بذلك الشكل المهين، وعلى قضية عطاء كمبيوترات سخيفة بالمقارنة ، لم تكن مجرد تصفية  حسابات شخصية بقدر ما كانت رسالة إلى...إحم..."الحرس القديم" بأن الحزب الأوحد لم يعد فوق الجميع وأن هناك حزب جديد للقصر يشاركهم السلطة، والعبوا سوا سوا أحسن.
 
وما العبث الذي جرى على الساحة السياسية الاردنية في العامين السابقين سوى صراع قوى بين "طرفا" الحزب الحاكم، أو الحزبان الحكامان، فتحته التغييرات في المنطقة على مصراعيه. فالصراع بين "بيروقراطية الدولة" والليبرالية الجديدة، وبين "الاصلاحيين" وقوى الشد العكسي، وحتى حرية التعبير والسقوف، من "تطاول على الديوان" إلى المطالبة بإقالة مدير المخابرات، هي ليست أكثر من  كسر عظم بين الحزبين بإستخدام أدواتهما للتأثير على الحاكم واستمالته إلى أحد الطرفين. (يشبه أحد الأصدقاء القريبين من المشهد قضايا الفساد "الكبرى" بلعبة الورق بين المخابرات والديوان: بتنزلي بالمعاني، بنزلك بالبخيت، بتنزلي بالذهبي، بنزلك بالكردي). وهذا بالمحصلة كان ظاهرة  صحية جاءت لمصلحة الناس الذين مكنهم "الصراع" من كشف بعض الفاسدين، والأهم إكتشاف أسلوب إدارة الدولة الفاشلة والية صنع القرار الهزلية  وبالتالي كسر هيبة الحزبين والحاكم مع بعض، الأمر الذي تنبه له الأطراف الثلاثة مؤخراً، فالثلاثة يتفقون تماماً على الضرورة الحتمية للحفاظ على النظام بشكله المتعفن الحالي، لما فيه من حفاظ على مصالحم جميعاً. 

بالمحصلة، فإن كل الحديث عن تعديلات دستورية وقوانين إنتخاب وحكومات دستورية تشكلها أغلبية نيابية، والحديث عن فصل السلطات وإستقلالية القضاء ليس له أي داعي، وهو مجرد رقص في العتمة ولغو. فحتى الحكومات  سريعة القذف التي ساد الإعتقاد يوماً بأنها طرف في صنع القرار مع المخابرات والديوان أصبح من البديهي أنها ليست سوى إفراز لسطوة أحد الحزبين على الآخر، وحسب حاجة الحاكم المرحلية. فالرئيس من أحد الحزبين، والتشكيل الوزاري يحتفظ بحد أدنى من التمثيل لكلاهما بغض النظر عن إنتماء الرئيس، لضرورات الحفاظ على خط الرجعة، وطبعاً مع شوية مستقلين وحزبيين منتهي الصلاحية لغايات الاكسسوار. وبالتالي مرجعية الحكومات هي الحزب الذي أفرزها.

 أما قمة الفكاهة والعبث (الذي تحول إلى قمة الملل والقرف)  تتجلى عندما تناط الرئاسة بشخص من خارج  أحد الحزبين لضرورة أو ضغط ما، مثل الخصاونة أو عدنان بدران، فإن انعزاله عن صنع القرار وعجزه وقلة حيلته يصبحان من الوضوح والإهانة إلى درجة تثير الشفقة.

وختاماً، فإن الأنظمة القائمة على حاكم أوحد مستبد، يحتمي برعاية أجنبية، ويبني عرشه على حلقات من المنتفعين تحمي أمنه وثروته قد أصبحت أنظمة منتهية الصلاحية. وهذه الأنظمة لا يمكن إصلاحها بوصفات ووعود، حتى على الفرض الواهم بأنها جادة، لأنها غير قادرة على الاصلاح، فخرابها أساس وجودها العضوي، وضمان استمرارها. نظام جامد بعقلية منقرضة يرفض التطور، اساليبه وحزبه وإعلامه والعابه تنتمي لحقبة سابقة. نظام سارق لثروات غير موجودة ينافس دول النفط في الانفاق على حاكمه الذي يظن أنه وريث ارستقراطيات أوروبا. نظام يحكم دولة تحمل إسم عائلة حاكم (!) وهو لا يمت للدولة أو لإسم العائلة بصلة، لا نسباً ولا لغةً ولا نشأةً ولا حتى ولاءً، بشهادة التاريخ.

بس يا أخي يشهد الله إنه منحبك منحبك منحبك.
وفايز الطراونة خيار صح. 
شاء من شاء، وأبى من أبى.
اعطوه فرصة يا جماعة.
 وين في مسيرة ولاء وأنتماء بكرا؟

Wednesday, January 11, 2012

لويش بتلد؟

بين الصورة ورسالتها، من منا لم يفكر بحرق الصورة؟

في فيلم شبه وثائقي قصير يستيقظ شاب أردني فيفتح الستائر متجبداً أمام جدارية عملاقة على واجهة البناية المقابلة لغرفته "منقوشٍ" في أعلاها: "إهداء من إسكانات أبو ركبة لامانة عمان". تتابع الكاميرا، من منظور الشاب، أحداث يوم عادي جداً، من ركوبه المواصلات العامة، ومروره بالمكتب والبنك والدائرة الحكومية والمطعم والشارع والمقهى والمسرح، لكن الكاميرا تقطع في كل موقع بشكل مفاجئ إلى صورة جلالة الملك التي تحيط بكل المساحات التي يتحرك فيها هذا الشاب.

في المشهد الختامي يقف مشدوهاً في وسط الشارع أمام إحدى هذه البورتريهات العملاقة كأنه يراها لأول مرة، فتأتي سيارة سوداء من طراز شفرولية تاهو تمعسه وتلقي به في الهواء. يرفع رأسه عله يلقط رقم السيارة، فتتسمر عيونه تلقائياً على زجاج السيارة الخلفي الذي تغطيه (طبعاً) صورة جلالته مع بندقية القنص المشهورة، فيغمض عينيه. "مات مات" يصيح أحد المارة. "لا حول ولا قوة إلى بالله" يصيح آخر أمام الجسد الممعوس. يأتي إبن حلال ويغطي الجثة بجريدة، فتتطاير أوراقها وتتدحرج في الشارع، تقترب الكاميرا من أوراق الجريدة فتظهر على كل صفحة صورة عملاقة لجلالته، تعلوها تهنئة بعيد ميلاده السعيد. النهاية. عرض الكريدتس على خلفية من لقطات لجماهير تلوح بصور صدام حسين وحسني مبارك و معمر القذافي وأغنية "افيري ستيب يو تايك، أي ويل بي واتشنغ يو."


ما هو وجه الشبه بين شادر خضار مخالف والمركز الثقافي الملكي؟ كلاهما من المعجبين بالنسخة الاردنية من دمية المتروشكا الروسية. مثال أخير بدون تكرار ممل للفكرة، دائرة الأحوال المدنية في الدوار الأول عبارة عن كوريدور مفتوح على بعضه بطول 35 متر وعرض ستة مترات يحوي في ثناياه على 15 صورة لجلالة الملك، أربع صور للملك السابق، أربع صور لولي العهد، وصورة للعائلة السعيدة. في هذه الصالة لا يمكن من أي ركن منها أن ترى أقل من ثلاث صور، في نفس الوقت في أي وقت. جورج أرويل نفسه في عالمه الافتراضي لم يكن سيسمح بذلك، لأنه قد يخاف أن ينتقده البعض للمبالغة في تصوير نظام الأخ الأكبر الشمولي.


المشكلة ليست بالصورة كرمز وطني، المشكلة في توظيف الصورة. ما هو المغزى؟ تذكير؟ ترهيب؟ تملق؟ حب شديد؟ دعاية مجانية؟ تعزيز الفرص في تجنب مخالفة؟ حتى لو افترضنا عفوية المواطن العادي في التعبير عن حبه، ماذا عن الدائرة الحكومية؟ لماذا يجب أن يتزين المركز الأمني بخمسين صورة في أوضاع مختلفة؟ ماذا عن المدارس؟ ما هي ضرورة وجود صورة تجحر فيك وأنت تحاول أن تتابع عرض مسرحي أو ندوة؟ العلاقة التي تحتاج إلى مظاهر مبالغ فيها للتأكيد على عمقها وصدقها هي علاقة غير صحية فيها كذب و خلل مستتر تظهر نتائجه على شكل كوارث على المدى الطويل.


الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة، أي أنك عندما تختار أن تتبنى مظاهر الأنظمة الشمولية إم التعريفة، فأنت تقر ضمنياً بأنك نظام شمولي من أبو التعريفة. من المفهوم والمتوقع أن يكون هناك جموع من المواطنين لا تستطيع أن تتفهم كيف يمكن لهذه الابتسامة العفوية أن تشكل نوع من الاستفزاز للبعض الآخر من اخوانهم المواطنين، والتفسير لذلك بديهي: أن هذه الصور بالنسبة للكثيرين قد أصبحت مجرد خلفيات لا تلفت الانتباه. فهناك حالة من نزع الحساسية أو التطعيم تنشأ بعد سنوات من العيش تحت تأثير مظاهر الحكم الشمولي تجعلها تظهر بأنها عادي، وهي أبداً مش عادي. الحل أيضاً بسيط: عزيزي المواطن إلي مفكر إنو عادي، أرجوك تبنى منظور جديد، منظور عين العصفور من أعلى، وتخيل نفسك شخص يزور البلد الأول مرة، أو قم بتبني الفيلم الوثائقي أعلاه وقم بالترفيه عن نفسك بعد الصور ليوم واحد، وشوف إذا جد عادي.


سنفترض أن الزعيم رمز وطني له احترامه، سواء اتفقنا مع سياساته وأسلوب حكمه أو اختلفنا معها، فهذا لا يعني أن تتحول لوحاته العملاقة لبديل عن العلم إوالخارطة في المناسبات الوطنية أو بديل لصور نانسي عجرم وبوب مارلي كزينة سيارات الكيا والتكاسي وبديلاً عن لوحات اعلن على هذه الواجهة ودعايات مجانية لقهوة أبو العبد، لأن هذا غير مقبول لا لهيبته ولا لرعاياه. لا بل أن الكثير من هذه الصور مأخوذة من أوضاع لا تليق بمكانته، وبعضها يجده أكثر الناس حياداً لا بل أكثرهم حباً مضحكة فعلاً، وبعضها (صورة القناص تحديداً) قد تحول (بصراحة) إلى موضع سخرية وفكاهة حتى من أشخاص مقربين من الديوان نفسه. (وهنا لا بد للمرء أن يشك في جدوى عشرات الالاف المهدورة كرواتب مستشارين غير قادرين على إختيار صورة مناسبة. يعني ألف مستشار إعلامي مش عارفين ينتبهوا إنه صور جلالته بالزي البدوي ما إلها داعي وانها ضاربة شوي بزيادة على إستشراق، ولا يعني المكتب الاعلامي بكامل كوادره تبع جلالتها عرف ينصحها إنه ستي يمكن إستعمال حرس البادية والحرس الشركس خلفية لعروض الأزياء والسياحة مش أحسن فكرة بالعالم؟!)


أيام قليلة تفصلنا عن مناسبة تاريخية تشكل فرصة لا يمكن تكرارها لرشم ملايين الصور في كل نواحي الوطن، وبمناسبة تشكيل لجنة للإشراف على إحتفالات المملكة باليوبيل الذهبي لجلالته، كان يمكن إستبدال الصور مثلاً بنصب تمثال من الذهب (أو من أقلام الرصاص) على قاعدة دوارة فوق واحد من برجي الدوار السادس بحيث يواجه الشمس في جميع الأوقات (أو مثلاً يواجه وجهة السفر لذلك الشهر)، لكن الفكرة سبق وإنعملت، كما أن الهاشميين تاريخياً أكبر من ينصب لهم تماثيل. بس بما انه صور بحجم البنايات عادي، فيمكن للجنة أن توصي بأن يتم صرف نظارات خاصة (مثل تبع الثري دي) لكل المواطنين بحيث تكون صورة جلالته منقوشة علىها بشكل شفاف لا يحجب الرؤية، وفرضها طول فترة إحتفالات المملكة بالعيد الميمون. نفس الأثر، بتكاليف أقل، كما أنها عصية على الحرق.