Wednesday, January 11, 2012

لويش بتلد؟

بين الصورة ورسالتها، من منا لم يفكر بحرق الصورة؟

في فيلم شبه وثائقي قصير يستيقظ شاب أردني فيفتح الستائر متجبداً أمام جدارية عملاقة على واجهة البناية المقابلة لغرفته "منقوشٍ" في أعلاها: "إهداء من إسكانات أبو ركبة لامانة عمان". تتابع الكاميرا، من منظور الشاب، أحداث يوم عادي جداً، من ركوبه المواصلات العامة، ومروره بالمكتب والبنك والدائرة الحكومية والمطعم والشارع والمقهى والمسرح، لكن الكاميرا تقطع في كل موقع بشكل مفاجئ إلى صورة جلالة الملك التي تحيط بكل المساحات التي يتحرك فيها هذا الشاب.

في المشهد الختامي يقف مشدوهاً في وسط الشارع أمام إحدى هذه البورتريهات العملاقة كأنه يراها لأول مرة، فتأتي سيارة سوداء من طراز شفرولية تاهو تمعسه وتلقي به في الهواء. يرفع رأسه عله يلقط رقم السيارة، فتتسمر عيونه تلقائياً على زجاج السيارة الخلفي الذي تغطيه (طبعاً) صورة جلالته مع بندقية القنص المشهورة، فيغمض عينيه. "مات مات" يصيح أحد المارة. "لا حول ولا قوة إلى بالله" يصيح آخر أمام الجسد الممعوس. يأتي إبن حلال ويغطي الجثة بجريدة، فتتطاير أوراقها وتتدحرج في الشارع، تقترب الكاميرا من أوراق الجريدة فتظهر على كل صفحة صورة عملاقة لجلالته، تعلوها تهنئة بعيد ميلاده السعيد. النهاية. عرض الكريدتس على خلفية من لقطات لجماهير تلوح بصور صدام حسين وحسني مبارك و معمر القذافي وأغنية "افيري ستيب يو تايك، أي ويل بي واتشنغ يو."


ما هو وجه الشبه بين شادر خضار مخالف والمركز الثقافي الملكي؟ كلاهما من المعجبين بالنسخة الاردنية من دمية المتروشكا الروسية. مثال أخير بدون تكرار ممل للفكرة، دائرة الأحوال المدنية في الدوار الأول عبارة عن كوريدور مفتوح على بعضه بطول 35 متر وعرض ستة مترات يحوي في ثناياه على 15 صورة لجلالة الملك، أربع صور للملك السابق، أربع صور لولي العهد، وصورة للعائلة السعيدة. في هذه الصالة لا يمكن من أي ركن منها أن ترى أقل من ثلاث صور، في نفس الوقت في أي وقت. جورج أرويل نفسه في عالمه الافتراضي لم يكن سيسمح بذلك، لأنه قد يخاف أن ينتقده البعض للمبالغة في تصوير نظام الأخ الأكبر الشمولي.


المشكلة ليست بالصورة كرمز وطني، المشكلة في توظيف الصورة. ما هو المغزى؟ تذكير؟ ترهيب؟ تملق؟ حب شديد؟ دعاية مجانية؟ تعزيز الفرص في تجنب مخالفة؟ حتى لو افترضنا عفوية المواطن العادي في التعبير عن حبه، ماذا عن الدائرة الحكومية؟ لماذا يجب أن يتزين المركز الأمني بخمسين صورة في أوضاع مختلفة؟ ماذا عن المدارس؟ ما هي ضرورة وجود صورة تجحر فيك وأنت تحاول أن تتابع عرض مسرحي أو ندوة؟ العلاقة التي تحتاج إلى مظاهر مبالغ فيها للتأكيد على عمقها وصدقها هي علاقة غير صحية فيها كذب و خلل مستتر تظهر نتائجه على شكل كوارث على المدى الطويل.


الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة، أي أنك عندما تختار أن تتبنى مظاهر الأنظمة الشمولية إم التعريفة، فأنت تقر ضمنياً بأنك نظام شمولي من أبو التعريفة. من المفهوم والمتوقع أن يكون هناك جموع من المواطنين لا تستطيع أن تتفهم كيف يمكن لهذه الابتسامة العفوية أن تشكل نوع من الاستفزاز للبعض الآخر من اخوانهم المواطنين، والتفسير لذلك بديهي: أن هذه الصور بالنسبة للكثيرين قد أصبحت مجرد خلفيات لا تلفت الانتباه. فهناك حالة من نزع الحساسية أو التطعيم تنشأ بعد سنوات من العيش تحت تأثير مظاهر الحكم الشمولي تجعلها تظهر بأنها عادي، وهي أبداً مش عادي. الحل أيضاً بسيط: عزيزي المواطن إلي مفكر إنو عادي، أرجوك تبنى منظور جديد، منظور عين العصفور من أعلى، وتخيل نفسك شخص يزور البلد الأول مرة، أو قم بتبني الفيلم الوثائقي أعلاه وقم بالترفيه عن نفسك بعد الصور ليوم واحد، وشوف إذا جد عادي.


سنفترض أن الزعيم رمز وطني له احترامه، سواء اتفقنا مع سياساته وأسلوب حكمه أو اختلفنا معها، فهذا لا يعني أن تتحول لوحاته العملاقة لبديل عن العلم إوالخارطة في المناسبات الوطنية أو بديل لصور نانسي عجرم وبوب مارلي كزينة سيارات الكيا والتكاسي وبديلاً عن لوحات اعلن على هذه الواجهة ودعايات مجانية لقهوة أبو العبد، لأن هذا غير مقبول لا لهيبته ولا لرعاياه. لا بل أن الكثير من هذه الصور مأخوذة من أوضاع لا تليق بمكانته، وبعضها يجده أكثر الناس حياداً لا بل أكثرهم حباً مضحكة فعلاً، وبعضها (صورة القناص تحديداً) قد تحول (بصراحة) إلى موضع سخرية وفكاهة حتى من أشخاص مقربين من الديوان نفسه. (وهنا لا بد للمرء أن يشك في جدوى عشرات الالاف المهدورة كرواتب مستشارين غير قادرين على إختيار صورة مناسبة. يعني ألف مستشار إعلامي مش عارفين ينتبهوا إنه صور جلالته بالزي البدوي ما إلها داعي وانها ضاربة شوي بزيادة على إستشراق، ولا يعني المكتب الاعلامي بكامل كوادره تبع جلالتها عرف ينصحها إنه ستي يمكن إستعمال حرس البادية والحرس الشركس خلفية لعروض الأزياء والسياحة مش أحسن فكرة بالعالم؟!)


أيام قليلة تفصلنا عن مناسبة تاريخية تشكل فرصة لا يمكن تكرارها لرشم ملايين الصور في كل نواحي الوطن، وبمناسبة تشكيل لجنة للإشراف على إحتفالات المملكة باليوبيل الذهبي لجلالته، كان يمكن إستبدال الصور مثلاً بنصب تمثال من الذهب (أو من أقلام الرصاص) على قاعدة دوارة فوق واحد من برجي الدوار السادس بحيث يواجه الشمس في جميع الأوقات (أو مثلاً يواجه وجهة السفر لذلك الشهر)، لكن الفكرة سبق وإنعملت، كما أن الهاشميين تاريخياً أكبر من ينصب لهم تماثيل. بس بما انه صور بحجم البنايات عادي، فيمكن للجنة أن توصي بأن يتم صرف نظارات خاصة (مثل تبع الثري دي) لكل المواطنين بحيث تكون صورة جلالته منقوشة علىها بشكل شفاف لا يحجب الرؤية، وفرضها طول فترة إحتفالات المملكة بالعيد الميمون. نفس الأثر، بتكاليف أقل، كما أنها عصية على الحرق.