إلى أهالي معتقلي الحرية: أنتم أحسن منا جميعاً
استفزني إعتقال عبدالله محادين أكثر من غيره من الرفاق. ربما لأني أشعر بأني أعرفه بشكل شخصي (أظن التقينا مرة سريعة على الدوار الرابع)، أو ربما لأنه بحماسته وتدينه وتفوقه يذكرني بأخوي الصغير. لكن من المؤكد أن السبب الرئيسي هو شعور بالظلم أولاً: "ليش دايماً عبدالله؟" "هو شو عمل أصلاً؟" وشعور بالقلق على وضع البلد وهشاشة نظامها الذي لا يستطيع أن يتحمل اعتصامات مجموعة صغيرة من الشباب فيلجأ إلى أساليب بائسة من ترهيب وحبس تعكس إفلاسه.
استفزني إعتقال عبدالله محادين أكثر من غيره من الرفاق. ربما لأني أشعر بأني أعرفه بشكل شخصي (أظن التقينا مرة سريعة على الدوار الرابع)، أو ربما لأنه بحماسته وتدينه وتفوقه يذكرني بأخوي الصغير. لكن من المؤكد أن السبب الرئيسي هو شعور بالظلم أولاً: "ليش دايماً عبدالله؟" "هو شو عمل أصلاً؟" وشعور بالقلق على وضع البلد وهشاشة نظامها الذي لا يستطيع أن يتحمل اعتصامات مجموعة صغيرة من الشباب فيلجأ إلى أساليب بائسة من ترهيب وحبس تعكس إفلاسه.
لكن هذه المرة قررت التعامل مع هذا الإستفزاز بطريقة مختلفة، فبدلاً من اليأس والإحباط وتبني الشعار التاريخي: (هذا الأردن وضعه هيك، وما في أمل يتغير قريباً، فيا بتلاقي طريقة تتأقلم معه بوضعه الحالي يا بتلاقيلك مكان الحياة في أحسن تقضي فيه هالثلاثين أربعين سنة الضايلين لك وبلا وجع راس)، قررت أن أرفض موجة اللامبالاة متزايدة الإنتشار وقررت أن احتل موقع عبدالله، على الأقل إلى حين إطلاق سراحه (خاوة). قررت أن أزيد من "نشاطي" الرافض للوضع القائم إفتراضياً، والأهم فعلياً، حاملاً الشعار الجديد "عبدالله مش أحسن مني"، وعاقداً العزم على تغيير الأولويات بما يتناسب مع الشعار الجديد.
كما توقع الرفاق، لم تستمر هذه الحالة أكثر من عشرة أيام. المشاركة بثلاثة أو أربعة اعتصامات خلال أسبوع كافية لتكتشف كمية الوقت التي يجب أن تكرسها للهدف على حساب نشاطاتك اليومية الأخرى التي يمارسها باقي البشر. الإعتقالات التي تحدث أمامك تحول السجن من فكرة "رومانسية" إلى حقيقة "مخيفة"، فتترك موقع الإعتصام وأنت غير قادر أن تتخيل بأن من كان يهتف على بعد مترين منك قبل دقائق يجلس الآن مقيداً في زنزانة، بينما يشاء الحظ (وجبنك) أن تعود أنت إلى كنبايتك. تعلق صورة في ذهنك: قوات التدخل السريع بإقنعتها السوداء تحيط بالمعتصمين وتتفوق عليهم عدداً بنسبة خمسة إلى واحد، آمر الفرقة ذو الكرش الهائل يسحب كيس أسود من جيب الفوتيك ويحشو رأسه به فيغطي وجهه حتى أعلى ذقنه فقط، وتشاء الصدف ألا يحصل الفض. لكن الفكرة وصلت؛ كيف ترد عندما تشاء الصدف ويحدث الهجوم؟ تنبطح أرضاً وتنقل إلى المستشفى أم تصمد وتنقل إلى المستشفى والسجن أم تلزم بيتك إحتياطاً، وفخار يكسر بعضه؟
في الواقع، كل ذلك ليس سوى مخاوف وتحديات سخيفة مقارنةً بالهدف، ومقارنةً بالشعور بالرضى الذي ينتج عن قناعة بأنك تتخذ خطوات أولى على الطريق الصحيح. لماذا تترك أرضك وجمهورك وتعلن الهزيمة أمام الغباء والتخلف والمرض بدون أدنى مقاومة؟ كان أسبوعاً سعيداً بالرغم من كل شيء. حتى جاءت مكالمة الوالدة الباكية: "انت شو الك دخل؟" "ليش ما بتفكر فينا؟" "إفرض صارلك اشي ولا انحبست؟" "إفرض صار عندك عاهة مستديمة" كانت مقدمة لساعات متواصلة من كلمات العتب الصادقة، فشلت كل المحاولات لإحتوائها ولم تتوقف قبل الحصول على وعد بتجميد كل الأنشطة، تحت التحديد "بالمقاطعة النهائية والتبري منك بالجرايد" في حال الإخلال بالوعد.
كان لدى الرفاق في فترة الأحكام العرفية نظرية بأن الأنظمة القمعية تعرف أن "الرهبة من السجن رادع أكبر بكثير من السجن نفسه"، وبالتالي فإن كل موجة اعتقالات تستهدف نفس المجموعة الأشخاص ممن كسروا (لحسن حظهم أو ربما سوء حظهم) هذا الحاجز، لتخويف المجموعة الأكبر ممن بقيت خارجه. في مجتمع مثل الأردن، يرتبط فيه الأفراد على الأقل بأسرهم الصغيرة إرتباطاً وثيقاً تتسع هذه النظرية فتصبح: "إعتقلوا الشباب مش لتخويفك فقط، بل الأهم لتخويف أهلك". ليس من السهل التضحية بوقتك وربما عملك وحتى حريتك في سبيل الهدف، ولكن الصعوبة فعلاً هي التضحية بما ليس لك ولا سيطرة لك عليه: فكيف تتعامل مع قلق الأم والأب والأخ والزوجة وغيرهم ممن تحب؟ وكيف تواجه لوم العم والخال ممن يشعرون بأن ما تقوم به قد يؤثر على حياتهم ومصالحهم؟ كيف تتعامل مع داوئر ودوائر من الضغوط؟ يمكن "عبدالله محادين مش أحسن مني" (وأشك بذلك)، لكن من المسلم به أن أهل وأحباء معتقلي الحرية أحسن منا جميعاً، فلهم الشكر والتحية، نفخر بكم كما تفخرون بأبنائكم رفاقنا، وبفضلهم وبفضلكم، ستأتي أيام أفضل.