توطئة: فك الارتباط
ما زالت الضفة الغربية قانونياً وإدارياً حتى هذه اللحظة جزء من أراضي المملكة الاردنية، ومن البديهي أنه بإستنثناء كلمة عابرة أو "لغوة" وردت في خطاب لإعتبارات تتعلق بطبيعة تلك المرحلة لم يأخذ النظام الاردني هذه الدعوة (أو بالأحرى الادعاء) للإنفصال على محمل الجد ولم يتم إتخاذ أي إجراء تشريعي أو قانوني لتفعيلها. من يسمع المطالبات اليوم بدسترة وقوننة "قرار" فك الإرتباط يخال له أن القدر لم يمهل الملك الراحل طويلاً بعد خطابه التاريخي لإتخاذ أي خطوات نحو التخلي عن "ضفته الغربية"! إنتظر الملك حسين 14 عاماً بعد قمة الرباط (التي قررت أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) قبل أن ينطق بكلمة واحدة حول قرار مؤتمر القمة الذي رفضه بشدة وقتها، ومضت 11 سنة أخرى بعد أن تفوه بالكلمة السحرية (فك الارتباط) مرت بها البلاد والمنطقة بشتى التغيرات والتحولات السياسية لكن مع المحافظة على ثابت وحيد: غموض الموقف الاردني من علاقته السيادية بالضفة الغربية.
السبب في ذلك واضح وبسيط: النظام الهاشمي كان ومازال يعتبر الضفة الغربية جزء من مملكته، بذل في سبيل ضمها الغالي والنفيس (إلى حد التواطؤ وبدون تفاصيل لأنها تطول). لا بل أن النظام الهاشمي يرى في القدس أساس لشرعيته الدينية (التي تمثل جزء إن لم يكن أساس لشرعيته في الحكم) وويرى في القدس بديل للشرعية الدينية المسلوبة من الهاشميين في الحجاز. برغم كل الضغوط الداخلية والعربية والدولية وعمليات السلام ومعارك كسر العظم مع ياسر عرفات وغيرها حافظ النظام على هذه العلاقة الغامضة مع الضفة الغربية التي تحفظ له مسمار جحا وأكثر، شاء من شاء وأبى من أبى.
محصلة: على حزب الفاشست اليميني الاردني الخائف (كذباً) على "الهوية الاردنية" الأصلية التي تشكلت منذ أيام المماليك ومنذ أيام مؤتمر إم قيس والهية ويخاف أن يتلوث نقاء العرق الاردني، على هذا الحزب أن يوجه سهام نقده إلى النظام الاردني (والهاشميين تحديداً) الذي يرى في الضفة الغربية إمتداداً لمملكته ويرى في سكانها على الضفتين شعب واحد مش شعبين، بدلاً من شق الصفوف وصب الكراهية ودعوات الإقصاء على أبناء وطنهم الذين جنسوا قسراً والذين يستمر النظام باستخدامهم كورقة ضغط لحل مشاكله الداخلية والخارجية.
أما أن يخرج حماة الهوية هؤلاء في دبكات الولاء والإنتماء ويقوموا بكتابة المراثي التي تخلد عظمة الحسين وعبدالله الأول وتشيد بحنكتهم، ومن ثمة يعودوا ليطالبوا "الحكومات" الفكاهية بسن تشريعات تدستر فك الارتباط فهذه هي قمة الجبن والإنتهازية. من يريد العودة إلى أردن ١٩٢١ الخالي من الغرباء فلينضم إلى عويدي العبادي والكساسبة وغيرهم من المفاصيم وليطالب بالجمهورية. أما لوم المواطنين الاردنيين على سياسة النظام ومطالبتهم بخوض معارك فردية في مواجهة سلطات الاحتلال للحفاظ على هويتهم والتثبت بها، فهذا هو السخف بعينه.
استعادة الضفة الغربية حرباً أو سلماً
بإنهيار السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير فإن على الاردن الآن مسؤولية أدبية، لا حتى تاريخية وقانونية لبذل كل جهد ممكن لتخليص الضفة الغربية من الاحتلال الصهيوني سلماً أو حرباً. بعد طرد الإحتلال الصهيوني من تلك المساحة الجغرافية التي علمتنا كتب الاجتماعيات والنشرة الجوية على التلفزيون الاردني (وحتى آثار الخريطة المرسومة فوق جسر وادي صقرة حتى اليوم) أنها جزء من المملكة الاردنية، يمكن عندها التفاهم مع فلول السلطة والمنظمة على صيغة حكم مشتركة أو منفصلة أو فدرالية وكونفدرالية أو غيرها،والأهم يمكن عندها ومن خلالها تعريف "المواطن الاردني"، لا بل حتى يمكن إخضاع أراضي الضفة الغربية المحررة إلى إستفتاء شعبي حول شكل وهوية الحكم (خلافاً لما جرى في وحدة ١٩٥٠ القسرية).
عندما سقطت القدس في أيدي الصهاينة كانت بعهدة وحماية الجيش العربي الاردني وتحت سيادة الدولة الاردنية، ومن المخجل أن تتنصل هذه الدولة من مسؤليتها عن وقوع نصف مساحتها الجغرافية وثلاث أربع مدنها تحت إحتلال أجنبي، بحجة أنها لم تعد مشكلتها، وأنها أصبحت مشكلة منظمة التحرير وياسر عرفات والسلطة ومشروع الدولة الفلسطينية! مهما بررنا لهزيمة حزيران وحتى لو إن عبدالناصر خدعنا وتركنا بلا غطاء جوي ولم نكن مستعدين وحاربنا حتى آخر جندي، هل هذا يبرر تسليم الجيش العربي الاردني بالهزيمة؟ خسرنا معركة كبيرة وانتصرنا بأخرى أصغر، طيب بعدين؟ النتيجة؟ بقيت الأرضي معهم! هل هذا يعني أن الحرب انتهت؟ يعني بالعربي، ياخذو ارضنا والقدس ويطردوا مواطنينا عادي، بس يعلموا علينا كمان بسفارة نفس الجيش إلي إنهزم يحميلهم اياها؟ والله كثير.
إذا صحيح "عندنا جيش وحاربنا (الصهاينة) أكثر من مرة" فالأجدى بهذا الجيش أن يعيد بناء عقيدته العسكرية على أساس أن الصهاينة هزموا هذا الجيش في مرحلة ما وأخذوا اراضيه لكن الحرب لم تنته، وأن استعادة الضفة من واجب هذا الجيش. بعد إستعادة الضفة سكان الضفتين بوزعوا حالهم بينهم وبلاقوا طريقة حكم ترضي الجميع، وبعدين ممكن نحكي في مواضيع السلام.
سقوط وادي عربة
لم تكن المعاهدة الاردنية الصهيونية يوماً حلاً منفرد على طريقة كامب ديفيد، ولا يمكن لها أن تكون كذلك أساساً نظراً للتداخل الديمغرافي (الذي أهملته وادي عربة بشكل مضحك، جعل من يقرأ نصوصها يعتقد أن كل أساس النزاع الاردني الصهيوني هو شوية مياه على نتفة أراضي في الغور، أما مليون لاجئ وأكثر مش بيناتنا). على العموم كان يفترض بوادي عربة أن تكون جزء من عملية سلام كامل في المنطقة اساسها فلسطين. بإنهيار العملية بأكملها وإنهيار الاتفاقات الاخرى ومع فرض الصهاينة للأمر الواقع على الأرض بشكل يجعل اي حل نهائي في إطار المفاوضات مستحيل فعلياً، فإن وادي عربة تسقط تلقائياً. فالمسار الفلسطيني-الاردني مسار مشترك، بدأ بوفد مشترك وكل خطوة يقوم بها الاحتلال في الضفة الغربية لها إنعكاس مباشر على الاردن.
(مداخلة سريعة: حتى لو افترضنا أن ياسر عرفات ضحى بوحدة هذا المسار في أوسلو، فماذا يجبر الاردن على الانسحاب من كل العملية وتوقيع إتفاقية تعزله عن كل ما يمكن أن يحصل في الضفة الغربية من أمور لها تأثير مباشر عليه، ليقف في موقف المتفرج أمام اتفاقات كان من الممكن أن تؤثر على الملايين من مواطنيه، حتى لا نقول اتفاقات تؤثر على أراض قانونياً تابعة له!).
على العموم، فإن اجراءات الصهاينة على الأرض في الضفة الغربية من إنشاء الجدار العازل، وإستخدامه لضم الأراضي وسرقة آبار المياه وبناء المستوطنات والعمليات العسكرية في الضفة هي أعمال عدوانية من وجهة نظر اردنية (سواء إعتبرنا هذه الأراضي تابعة للأردن أم لا فإن هذه الإجراءات خطيرة على الاردن) وهي أيضاً تستوجب إلغاء المعاهدة (أو على الأقل توجيه الإنذارات بأنها تهدد المعاهدة).
لا بد من التذكير أن الصهاينة لم يتوانوا عن شن عملية عسكرية على الأراضي الاردنية عام ١٩٩٧ وقاموا بالإعتداء على السيادة الاردنية من خلال إختراق الحدود من قبل قوة خاصة وتنفيذ عمل حربي (آكت أف وار) بمحاولة إغتيال مواطن أردني في قلب بلده. (بالمناسبة وللتذكير أيضاً، فإن مبادلة أسرى الحرب بالدواء المضاد وإطلاق سراح أحمد ياسين لم يكن كافي نهائياً في وقتها (راجع تاريخ تبادل الأسرى مع الصهاينة أو تبادل الأسرى مع حزب الله)، لكن إغتيال أحمد ياسين بعدها ببضع سنوات كان مبرر أكثر من كافي لإلغاء المعاهدة بعد أن أثبت الإغتيال أن الصهاينة يعتبرون الاردن، كياناً وملكاً وشعباً مجرد مسخرة.)
إذا اضفنا الخروقات التقنية الاخرى وتحديداً في موضوع المياه (في لقاء صحافي مع دريد محاسنة مسؤول ملف المياه في المفاوضات، شرح بإسهاب أن الجانب الصهيوني لم يلتزم بأي من الاتفاقات الموقعة حول موضوع المياه)، فإن هناك العديد من الأسباب الموجبة لإعتبار معاهدة وادي عربة لاغية، وذلك حسب شروط المعاهدات الدولية التي تجعل إلتزام الأطراف ببنودها أساس تطبيقها.
خاتمة: رفض التفاهم التاريخي
إذا كان الاصلاح الحقيقي في الاردن المتمثل في ملكية شكلية لا تشارك بالحكم بأي شكل من الأشكال والإنتقال إلى المدنية الكاملة والمساواة بين المواطنين، حقوقاً وواجباتاً وتمثيلاً يحتاج الاجابة عن سؤال المواطنة أولاً، فإن الاجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تحصل بدون "إصلاح" العلاقة المختلة بين الاردن والكيان الصهيوني، واعادة تعريف هذا الكيان كعدو يحتل أراض من أراضي المملكة ويتحكم بمواطنيها.
والطريقة الوحيدة لإمكانية تعريف العلاقة مع الصهاينة كأعداء حتى إستعادة الضفة الغربية (على الأقل) هو الضغط بشدة نحو رفض التعاون والتفاهم التاريخي (حتى لا نقول الشراكة الإستراتيجية في المنطقة) بين النظام الهاشمي في الاردن والصهاينة. وكل من يرفض الاعتراف بوجود هذا التفاهم (على أقل تقدير) ويرفض الاعتراف بضرورة تقويضه من أجل تحقيق الإصلاح في الاردن، إما جاهل لم يطلع على تاريخ المنطقة، أو إختار أن يعيش في حالة من نكران الواقع صقلتها طقوس عبادة الأفراد.